( كيف أرثيكَ .. لايجوز الرثاءُ
كيف يُرثى الجلال والكبرياءُ )
{ وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } صدق الله العظيم ..
كان نبأٌ كالصاعقة، لم يكن مثل كل الأنباء التي ألفناها في زمن الحوادث العِظام.
هو نهارٌ قد بدأ يلوح، وأنّى للنهار أن يتوشّح بالسواد وقد بزغ شعاع الصبح الأبيض، لكن أول النهار هذه المرة جاء بخطبٍ جلل، ليس كبقية الأخبار التي تُغرقنا بها أيام النُّحوس، حتى وإنْ صار “الوجع” لحن الرزايا التي تعزفه موسيقى أرواحنا المثقلة بوجع الرحيل.
هو “الوجع” الذي يتّسق بِسُلامى الجسد، كما يتّسق بجوهر الروح. هي المواجع وقد ألِفنا إجترارها منذ عقود خَلَت..”لكن أيُّ فارس ترجّل وأيُّ نجمٍ أفَل”؟
صدورنا مثخنة بالجراح أيُّها الراحل في أعماقنا..
بيوتنا مثقلة بمرارة الفقد والألم
حين قيل بأن “السيّد” قد مات.
حتى الحجارةَ قد حَنّت لساكِنها
فكيف بالقلبِ إذْ ضاقت بهِ الحِيَلُ
كلُّ شبرٍ في جنوبنا الحبيب يا “صالح” تكمن فيه قصة عشقٍ مكتوبة بمداد من دمِ الأبطال الميامين.
هذه المَرّة كان النبأ أشدُّ ايلاما ووجعاً وقساوة..
للهِ نشكو إذا ما الشوقُ أوجَعَنا
أرواحُنا رحلت في إثرِ مَن رحلوا
تزاحمت في مخيلتي الأحداث والصور والكلمات والأماكن كَفَرَاشٍ يحمنَ على زهرة ..
ألفيتُكَ صالح المقدام، كأن روحي هتفت في محراب البسالة..
أنتَ الشجاعُ إذا لقيِتَ كتيبةٌ
أدَّبْتَ في هَــوْلِ الردى أبطالَهَا.
شريطٌ متسارع يدور ويدور ، وعلى فضاءٍ العَرْض تتداخل الأضواء وتمتزج الألوان وتتلاقح وسط سيمفونية المشهد الرهيب، كما وتبدو تفاصيل الأحداث المرسلة كما لم أرها من قبل.
هل حقاً غاب نجم صالح الذي ظل ساطعاً في سماء الجنوب؟
لِمَ تعجّل الفارس وترجّل؟
أنّى لقلمي أنْ يُرثيَه..” وهل يُرثى الجلالُ والكبرياءُ”؟
هي الحروف تساقطت عجلى، وتناثرت الكلمات في خضم معركة نشبت في مسرح تراجيديا المأساة الصادمة .. فتعطّلت لغة الكلام وفقدت المفردات معانيها ، وبدت السطور كسكّة تمتد بعيداً في أُفقٍ مُدلهم لا ينتهي، بينما توشّحت الأمكنة حداداً متناهي الأبعاد والعوالم . هل حقا ترجّل الفارس عن صهوة جواده وذهب محلقاً في ملكوت الخلود؟ ..
نم قرير العين يا”سيّد” الجبهات، وقد حملت بين جنبيك نبضُ وَطَن..
ألستَ قاهرٌ الإرهاب ومَن زرعت الرعب في صدور الأعداء حيّاً وميتا ؟
رحلت وأنت “السيّد” الذي ترك إرثاً لاينضب من البطولات، كنتَ أنتَ من اجترحها في ميادين الوغى ؟
أم أنت من صال وجال، وسابق على “حيّا على الكفاح” ؟
ما رأيناك يوماً تأخرت عن تلبية النداء ، بل كنت أنت “النداء” الذي ما أن صَدَحت به لبّت الرجال على عجل لسد الثغور ومقارعة الأعداء.
كنت للشموخ عنواناً فريداً، وسِيرةً بمفرداتٍ لا تفسّرها المعاجم .
كنت شجاعا مقداماً تملأُ الأرض مهابة ، وكنت واحداً من الذين صنعوا المجد ونذرته وقفاً لمواكب المناضلين في دروب الحرية والإنعتاق .
لمثلك فلتبكِ البواكي ، ولتنهمر دموع الأسى، وحين تزدحم غُصّة القهر في حلاقيم الغيارى يهتفون في حبيبهمُ المُفارِق ..”وإنّا على فراقك لمحزونون”
اللهم إنّا لا نسألك رد القضاء ، ولكن نسألك اللطف فيه .. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
*د. محمد الزعوري
*وزير الشؤون الاجتماعية والعمل